من الحارة إلى البولفار: يوم ماطر في باريس
لوحة يوم ماطر في باريس، لجوستاف كايبوت، معروضة في معهد الفن في شيكاغو
على مدى عشرين عامًا، راقب الباريسيون بمزيج من الفزع والدهشة مدينتهم تتلاشى لتظهر مكانها واحدة جديدة بالكامل. ففي العام 1853، أعطى الإمبراطور نابوليون الثالث ضوءًا أخضر لعمدة باريس، البارون هوسمان، لاتخاذ ما يلزم من الإجراءات لإنقاذ مدينة متداعية صارت تختنق بشوارعها الضيقة وأبنيتها الخشبية المتكدسة، وتعيش تحت التهديد الدائم للأوبئة والحرائق.
مقابل المزيد من النور والمساحات الخضراء، وتحويل باريس إلى عاصمة مبهرة لا مثيل لها، تليق بالإمبراطورية الجديدة، دمّر هوسمان أكثر من نصف المدينة التاريخية التي محيت من الخارطة دون رجعة. وعام 1877، أي خلال المراحل الأخيرة من ولادة باريس «الهوسمانية» كما نعرفها اليوم، ترك لنا الفنان الفرنسي الشاب آنذاك، جوستاف كايبوت، لوحته الأهم ربما، بعنوان شارع من باريس، يوم ماطر، والتي تظهر مجموعة باريسيين يتجولون في أحد الأحياء الحديثة.
يدخلنا كايبوت باريس الجديدة من أوسع أبوابها: «البولفار»، أي الشارع الطويل والعريض الذي شق منه هوسمان العشرات من الشوارع، والذي يستعرض الفنان هنا مفرداته: مبان متشابهة تمتد إلى اللانهاية، وشوارع مستقيمة كل ما فيها مضبوط إلى حد الهوس، من ارتفاعات المباني وتباعد الشبابيك وأضواء الرصيف، والأهم من ذلك، الطبقة الوسطى، ذلك المخلوق الغريب الذي وُلِد مع القرن التاسع عشر، والذي بدا وكأن إزاحة المدينة القديمة سمحت له بالتسرب خارج جحوره ليغزو الشوارع ببدلات سوداء وشماسٍ متطابقة، وبهوس بالعمل والتسلق الاجتماعي صار البولفار مسرحه الأساسي: «توقفت باريس للأبد عن كونها تجمعًا من بلدات صغيرة كل منها بملامح وطريقة حياة متمايزة، حيث يولد المرء ويموت دون أن يحلم يومًا بمغادرة بيته (…) فالمركزة وجنون العظمة خلقا مدينة مصطنعة لم يعد الباريسي يشعر فيها بالألفة»(1). بعبارات مماثلة، استمرت كتب التاريخ الفرنسية حتى القرن العشرين برثاء باريس القديمة واختفاء منظومة «الحارة» بكل ما تحمله من ألفة اجتماعية.
قد يتوهم البعض بأن تلك النقلة القسرية إلى الحداثة كانت استراتيجية قمعية خاصة بالدار البيضاء ودمشق وغيرها من المستعمرات، لكن الحقيقة هي أن الباريسيين كانوا أنفسهم ضحيتها الأولى. في لوحة كايبوت، يبدو ذلك الشعور بالغربة واضحًا، فتتحول العمارة التي أرادها الإمبراطور عظيمة وفخمة إلى عالم عدائي ينكمش بعيدًا عن قاطنيه، تردد جدرانه صدى عزلة الإنسان الحديث. أما أبنية البولفار، الغنية بالزخرفة في الحقيقة، فتفقد هنا ملامحها ولا يبقى منها إلا خطوط مملة ونوافذ رمادية صمّاء تأبى نقل ما بداخلها أو عكس ما حولها. ببصيرة ثاقبة، يبدو تأويل كايبوت للواقع كنبوءة بما ستصبحه العمارة الحديثة فعلًا بعد قرن.
في اللوحة، تجد البولفارات التي شُقت لتهوية المدينة طريقةً جديدة لخنق أهلها، فشخصيات كايبوت تدرك أنها مراقبة، وأن المدينة الجديدة بـ«البلاكين» والشبابيك الكبيرة والأضواء الغازية تحوّل الشارع إلى مسرح كبير، الجميع فيه ممثلون ومتفرجون معًا. ينظر الزوجان إلى يمينهما بنفس الزاوية إلى شيء ما (أو أحد ما) خارج نطاق نظرنا، ويعشش في اللوحة إحساس بالريبة والقلق الناتجين عن وعي الشخصيات المفرط بتحركات من حولهم، بأنهم مكشوفون في الفراغ، وفي ذات الوقت، لا توجد أي نظرات متلاقية، الشيء الذي يميزالكثير من لوحات النصف الثاني من القرن التاسع عشر.