ياباني يدعو المصريين إلى جمعة العمل في التحرير
رأيته هادئاً صامتاً عاكفاً على الاب توب حتى منتصف الليل في المعمل،
متابعاً بدقة آخر تطورات الوضع العصيب في بلده بعد أن أعلنت جميع وسائل
الإعلام العالمية أن ثمة كارثة نووية على وشك الحدوث في اليابان فقد ضُربت
بزلزال عنيف و تسونامي مما أصاب أحد أقدم مفاعلاتها النووية و إحتمال
إنهياره.
حدث هذا في أوائل شهر مارس الماضي بعد شهر تقريباً من تنحي الرئيس السابق مبارك عن السلطة و إستلام المجلس العسكري زمام الأمور.
كان هذا حال زميلي الدكتور الياباني ماكوتو الذي حضر مؤقتاً إلى
الولايات المتحدة لإستكمال أبحاثه الطبية هنا، فكان الحديث اليومي في قسمنا
آنذاك لا يخلو من خبر إما عن مصر أو اليابان. فقد أستطاعت مصر أن تسقط
النظام الفاسد و أستطاعت اليابان أن تسيطر على المفاعل من الإنهيار.
و سرعان ما مرت الأيام و تعاقبت الأحداث و سافر ماكوتو إلي طوكيو
لقضاء أجازته الصيفية مع عائلته هناك ثم رجع إلينا منذ أيام قليلة، كنت
متلهفاَ لمعرفة آخر التطورات على أرض الواقع و مقارنتها بما أقرأه في
الصحف.
فبادرته بالسؤال عن ذلك فأدهشني عندما قال لي أن طوكيو مظلمة هذه
الأيام، لم أفهم ماذا يقصد فأوضح لي أن اليابانيين قرروا أن يطفئوا الإنارة
في الشوارع و البيوت و أن يخلدوا إلى النوم مبكراً حتى يخفضوا إستهلاك
الكهرباء في المدينة نسبة لعطل هذا المفاعل النووي.
فسألته في (دهشة) عمّا قرأته في مختلف الصحف; فعلى سبيل المثال قرأت أن
اليابانيين يعملون ساعتين اضافيتين بدون مقابل يوميا لمساعدة بلادهم على
تخطي الازمة، و عمّا نشرته ال( سي إن إن) عن قصة الفريق الذي كان يقود
عملية إنقاذ المفاعل و أن أغلب أعضائه كان من المسنين المتطوعين و التي لم
تقل أعمارهم عن الستين وقد علل أحدهم مشاركتهم في ذلك بأنهم لا يستطيعوا أن
يدعوا الشباب يعرضوا أنفسهم للخطر الإشعاعي فإن أمامهم مستقبل مشرق وعلل
آخر بأن جيلهم هو من روّج لبناء هذه المفاعلات لذا وجب عليهم أن يتحملوا
تبعاته و مشاكله. وعمّا قرأته أيضاَ عن قيام بعض الشركات والمحال التجارية و
المطاعم بتخفيض أسعارها و عن عدم وجود تجمهر على تخزين السلع الغذائية و
لا حدوث سرقات خلال الأزمة.
كنت أنتظر أن يرد عليّ بتفاصيل تزيل دهشتي ولكنه تعجب من هذه الدهشة و
نظر إلي و كأنه لا يفهم ماذا أريد فأحسست بقليل من الحرج و شعرت وقتها كأن
شخص غربي سأل مصري: هل صحيح ماسمعت إذا تجاوزت والدتك سن معين فإنها لا
تعمل و تجلس في بيتها و تقوم أنت بخدمتها و برعايتها ؟ ففي نظر المصري هذا
واجب وشئ طبيعي و لكن الأجنبي الغربي لا يرى ما يراه.
ولكي ينهي هذا الموقف المحرج سألني عن أحوال مصر و عن الخطوات التى
أتخذناها لتحقيق الديمقراطية والتنمية و لماذا ما زال بعض الناس معتصمين في
التحرير و ما أسباب الخلاف مع الجيش وغيره، و لكنه دون أن يدرك فقد أوقعني
بذلك في سؤال أكثر إحراجاَ فحقيقة الأمر أنا لا أملك الإجابة على هذه
التساؤلات و لا أعتقد أن هناك من يجزم أنه يعلم الإجابة، فأخذت أفكر :
كيف أفسر له إستمرار إعتصام البعض في الميادين حتى الآن خاصة بعد
التغيير الوزاري الأخير الأسبوع الماضي (يوليو) إمتثالاً لمطالب الثوار
وكيف أوضّح له أن إستمرارالأعتصام هومن أجل حقوق الشهداء بعد أن رأيت أن
أغلب المطالبين قد حصروا هذا الحق في القصاص (والذي لا يختلف أحد عليه)
ولكن نسي الكثير منهم الهدف الأساسي من تضحية هؤلاء الشهداء بأرواحهم أم
أنهم يعتقدوا أن الحرية والديمقراطية و العدالة الإجتماعية سوف تُمنح لنا
و هم معتصمين في الميادين !
كيف أفسر له بداية تخوين بعضنا البعض دون أي دليل، فلم أستطع أن أجد
شخص أو جماعة أو حزب واحد لم تنهال عليه الإتهامات بالعمالة و الخيانة حتى
الجيش الذي حمى هذه الثورة و المتمثل في مجلسه العسكري.
كيف أفسر له القول الشائع أن (الثورة لم تكتمل بعد) !
و لكنني بعد تعاملي معه وما سمعت عما قام به أبناء وطنه تيقنت حقاً أن الثورة لن تكتمل أبدا قبل أن نثور على أنفسنا !!
فيا من تتحدث بأسم ثوار مصر: أدعوك أن تثور على نفسك لكي ترى إن كنت قد
طورت من نفسك كي تنجح هذه الثورة أم إنك قد إحترفت الأعتصامات في الميادين
و تنتظر من يأتي لغيرك ؟ عندها فإني أقترح عليك أن تستورد شخص ياباني
ليحقق لك مطالبك، ليس فقط لعظمة مبادئهم ولكن لأنه لن يفهم الشعارات و
الافتات التي سوف ترفعها بالتأكيد كل جمعة إعتراضاً على سياسته عندها سوف
يستمر في عمله لعلنا نتقدم.
أما إذا كنت الثائر الحق، فأقول لك قول الشعراوي رحمة الله عليه أن
الثائر الحق هو من يثور ليهدم الفساد ثم يهدأ ليبني الأمجاد، و قد قال
"يهدم" وليس "يمحو" فلن يُمحى أي فساد إلاّ ببداية العمل حتى نبني
الأمجاد.
فإن ميداننا الأول أنفسنا، إن إنتصرنا عليها كنا على غيرها أقدر و إن لم نستطع، كنا على غيرها أعجز.
وها نحن أمام فرصة ذهبية لإتمام هذه الثورة فاليوم أول أيام شهر
رمضان الكريم فقد حان الوقت كي نثور على أنفسنا كي نطهرها و ربما نبدأ و
لأول مرة بعد زمن بعيد أن نطبق جانب عظيم قد نسيناه طويلاً في ديننا (
سواء كنت مسلم أم مسيحي) ألا وهو جانب العمل !
فإذا كنت متابع للشأن الياباني ستلاحظ أن هناك علاقة غريبة بين
الثورات المصرية و الأزمات النووية في اليابان. فالأولي منذ ستون عاماً
عندما قامت ثورة ٥٢ بعد أعوام قليلة من ضرب اليابان بقنبلتين ذريتين و
تدميرها ، وها قد رأينا ما وصل اليه كل منا بعد ذلك، كانت حجتنا آنذاك
أننا لم نكن نملك قرارنا وكانت حجتهم عملهم ، و ها نحن نعيش العلاقة
الثانية الآن ولكن مع الفارق فهل سنحكي لأبنائنا في المستقبل ; كيف أستطعنا
بناء هذا البلد العظيم أم سنكون ما زلنا نناقش: الدستور أم الإنتخابات
أولاً !
فالندعو جميعاَ إلى جمعة العمل في رمضان.
وفقنا الله وإياكم لما فيه الخير لهذا الوطن.
رمضان كريم.
بوسطن –الولايات المتحدة الأمريكية