تاريخ فلسطين قبل الإسلام
وقفات مع تاريخ صراع الحق والباطل على أرض فلسطين:
قدر الله سبحانه وتعالى أن تكون فلسطين أرضاً للرسل والأنبياء الذين حملوا راية التوحيد، ودعوا أقوامهم إلى الالتزام بها. وقد شهدت فلسطين في تاريخها القديم نماذج عنيفة في سبيل تثبيت راية الحق على الأرض المباركة . ويجب –قبل أن نخوض في التفاصيل – أن نثبت حقيقة مهمة، وهي أن المسلمين يؤمنون بكل الأنبياء ويعتبرون تراث الأنبياء تراثهم، ويعتبرون رسالتهم الإسلامية امتداداً لرسالات الأنبياء الذين جاءوا من قبلهم، وأن الدعوة التي دعا إليها الأنبياء هي نفس الدعوة التي دعا إليها محمد صلى الله عليه وسلم وبالتالي فإن رصيد تجربة الأنبياء في دعوتهم للحق وعبادة الله وحده لا تنفصم عن دعوة المسلمين ورصيد تجربتهم . وانظر إلى قوله سبحانه {ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت}، فهي رسالة التوحيد التي يدعو إليها كل رسول. وعندما كان يكذب أي قوم رسولهم فقد كان ذلك تكذيباً لجميع المرسلين، وتأمل قوله تعالى في {كذبت قوم نوح المرسلين}، {كذبت عاد المرسلين}، {كذبت ثمود المرسلين}، {كذبت قوم لوط المرسلين}، {كذب أصحاب الأيكة المرسلين} . ويغرق العديد من المؤرخين عند مواجهتهم لادعاءات اليهود المعاصرين بحقهم في فلسطين في الانشغال بعلوم الآثار، وذكر الشعوب التي استوطنت أو حكمت أو مرت على فلسطين وكم حكم كل منها هذه الأرض ليخرجوا في النهاية بنتيجة مؤداها ضآلة الفترة والمساحة التي حكم فيها اليهود عبر التاريخ مقارنة بالعرب والمسلمين، ورغم أن هذا الجانب مفيد في رد ادعاءات اليهود من النواحي التاريخية والعقلية المنطقية، إلا أن كثيراً من هؤلاء الكتاب والمؤرخين يعقون في خطأين كبيرين حسبما يظهر لنا:
الأول: اعتبار تراث الأنبياء الذين أرسلوا إلى بني إسرائيل أو قادوهم تراثاً خاصاً باليهود فقط، وهذا ما يريده اليهود !!
الثاني: الإساءة إلى سيرة عدد من أنبياء بني إسرائيل باستخدام الاستدلالات المستندة إلى توراة اليهود المحرفة نفسها، وهم عندما يستخدمونها فإنما يقصدون الإشارة إلى "السلوك المشين" لبني إسرائيل وقادتهم عندما حلوا في فلسطين، ليضعفوا من قيمة دولتهم ويبينوا انحطاط مستواهم الحضاري، ويدخل أصحاب هذا المنهج في الاستدلال بما ذكرته الإسرائيليات من اتهام للأنبياء بالغش والكذب والزنى واغتصاب الحقوق وقتل الأبرياء، في محاولات لإثبات قسوة ومكر ولؤم اليهود وتشويه صورة حكمهم ودولتهم في ذلك الزمان .
لقد كفانا القرآن الكريم مؤونة التعرف على أخلاق اليهود وفسادهم وإفسادهم، غير أن أنبياءهم وصالحيهم أمر آخر، فالأنبياء خير البشر، ولا ينبغي الإساءة إليهم والانجرار خلف الروايات الإسرائيلية المحرفة، التي لا تسيء للأنبياء فقط وإنما لله تبارك وتعالى . وعلى سبيل المثال تذكر التوراة المحرفة والتلمود أن الله (تعالى عما يقولون علواً كبيراً) يلعب مع الحوت والأسماك كل يوم ثلاث ساعات،وأنه بكى على هدم الهيكل حتى صغر حجمه من سبع سموات إلى أربع سموات، وأن الزلازل والأعاصير تحدث نتيجة نزول دمع الله على البحر ندماً على خراب الهيكل، هذا فضلاً عما ذكره القرآن من ادعاءاتهم {وقالت اليهود يد الله مغلولة}، {لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء}. كما ينسب اليهود إلى سيدنا يعقوب عليه السلام سرقة صنم ذهبي من أبيه، وأنه صارع الله (!!) قرب نابلس وسمي لذلك بإسرائيل، كما تنسب له رشوة أخيه وخدعه أبيه وأنه سكت عن زنا ابنتيه وأنه أشرك بربه . . !! وقس على ذلك ما ذكروا عن باقي الأنبياء عليهم السلام . لقد حرف اليهود التوراة، وساروا على نهج التوراة المحرفة في أخلاقهم وفسادهم وإفسادهم محتجين بما نسبوه إلى أنبيائهم كذباً وزوراً، ومن الواجب على المؤرخين وخصوصاً المسلمين ألا يندفعوا في استقرائهم لتاريخ فلسطين إلى اتهام أنبياء الله بما افتراه عليهم اليهود وذلك في سبيل إثبات حق الأقوام الأخرى في فلسطين . وإذا كانت رابطة العقيدة والإيمان هي الأساس الذي يجتمع عليه المسلمون مهما اختلفت أجناسهم وألوانهم، فإن المسلمين هم أحق الناس بميراث الأنبياء – بما فيهم الأنبياء وهم السائرون على دربهم وطريقهم وهؤلاء الأنبياء هم مسلمون موحدون حسب الفهم القرآني، وانظر إلى قوله تعالى {ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين، إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين}، وقوله تعالى {وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك . .}، وقوله تعالى {ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين، إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين، ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون، أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلهاً واحداً ونحن له مسلمون}. وبشكل عام فأمة التوحيد هي أمة واحدة من لدن آدم عليه السلام حتى يرث الله الأرض ومن عليها، وأنبياء الله ورسله وأتباعهم هم جزء من أمة التوحيد، ودعوة الإسلام هي امتداد لدعوتهم، والمسلمون هم أحق الناس بأنبياء الله ورسله وميراثهم . فرصيد الأنبياء هو رصيدنا، وتجربتهم هي تجربتنا، وتاريخهم هو تاريخنا، والشرعية التي أعطاها الله للأنبياء وأتباعهم في حكم الأرض المباركة المقدسة هي دلالة على شرعيتنا وحقنا هي هذه الأرض وحكمها . نعم، لقد أعطى الله سبحانه هذه الأرض لبني إسرائيل عندما كانوا مستقيمين على أمر الله وعندما كانوا يمثلون أمة التوحيد في الأزمان الغابرة، ولسنا نخجل أو نتردد في ذكر هذه الحقيقة وإلا خالفنا صريح القرآن، ومن ذلك قول موسى عليه السلام لقوله {يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقبلوا خاسرين}، غير أن هذه الشرعية ارتبطت بمدى التزامهم بالتوحيد والالتزام بمنهج الله، فلما كفروا بالله وعصوا رسله وقتلوا الأنبياء ونقضوا عهودهم وميثاقهم، ورفضوا اتباع الرسالة الإسلامية التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم والذي بشرّ به أنبياء بني إسرائيل قومهم {الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل}، {ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد}، فلما فعلوا ذلك حلت عليهم لعنة الله وغضبه، {فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية}، وقال تعالى {قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شر مكاناً وأضل عن سواء السبيل}. واستطراداً في مناقشة الادعاءات اليهودية بحقهم في فلسطين وفق نصوص التوراة، نشير إلى ما يذكرونه في التوراة المحرفة من إعطاء هذه الأرض لإبراهيم عليه السلام ونسله . ومما جاء فيها "وقال الرب لإبراهيم: اذهب من أرضك ومن عشيرتك ومن بيت أبيك إلى الأرض التي أريك، فذهب إبراهيم كما قال الرب، فأتوا إلى أرض كنعان، وظهر الرب لإبراهيم وقال :لنسلك أعطي هذه الأرض"، وجاء في التوراة المحرفة أيضاً "وسكن (إبراهيم) في أرض كنعان فقال له الرب: ارفع عينيك وانظر من الموضع الذي أنت فيه شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً، لأن جميع الأرض التي أنت ترى لك أعطيها ولنسلك إلى الأبد"، وجاء فيها أيضاً "قطع الرب ميثاقاً قائلاً: لنسلك أعطي هذه الأرض، من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات" . وللرد على ذلك – فضلاً عن فهمنا للمسألة في أصلها الشرعي – نقول:
إذا كان هناك عهد فقي أعطي لإبراهيم عليه السلام ولنسله، وليس بنو إسرائيل وحدهم نسل إبراهيم، فالعرب المستعربة هم من نسله أيضاً (أبناء إسماعيل عليه السلام) ومنهم محمد صلى الله عليه وسلم .
إذا كانت المسألة مرتبطة بالنسل والتناسل فالدلائل تشير إلى أن الأغلبية الساحقة لليهود في عصرنا ليست من نسل إبراهيم عليه ا لسلام وذلك أن معظمهم يهود اليوم هم من يهود الخزر الذين دخلوا هذا الدين في القرنين التاسع والعاشر الميلاديين !!
إن القرآن الكريم يوضح مسألة إمامة سيدنا إبراهيم وذريته في شكل لا لبس فيه، وتأمل قوله تعالى {وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن، قال إني جاعلك للناس إماماً ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين}. فعندما سأل إبراهيم الله أن تكون الإمامة في ذريته بيّن الله له أن عهده لذريته بالإمامة لا يستحقه ولا يناله الظالمون، وأي ظلم وكفر وصد عن سبيل الله وإفساد في الأرض أكبر مما فعله ويفعله بنو إسرائيل !!
أما ما يتعلق بادعاءات اليهود التاريخية فقد كفانا الكثير من المؤرخين مؤونة الرد عليها ففترة حكم فلسطين تحت راية الإسلام هي أطول الفترات التاريخية، والشعوب التي استوطنت فلسطين قبل مجيء اليهود بأكثر من ألف عام ظلت مستقرة فيها حتى الآن، وقد اندمجت بها الهجرات العربية قبل وبعد الفتح الإسلامي وهي التي يتشكل منها شعب فلسطين الحالي بدينه الإسلامي ولغته وسماته.
فلسطين في العصور القديمة سكن الإنسان أرض فلسطين منذ العصور الموغلة في القدم، وهناك آثار تعود إلى العصر الحجري القديم (500 ألف – 14 ألف ق.م)، والعصر الحجري الوسيط (14 ألف – 8 آلاف ق.م) حيث يطلق على هذا العصر في فلسطين الحضارة النطوفية نسبة إلى مغائر النطوف شمال القدس، وأصل النطوفيين غير معروف حتى الآن وتركزت حضارتهم على الساحل وعاشوا في المغائر والكهوف كمغائر جبل الكرمل .
وفي العصر الحجري الحديث (8000 – 4500 ق.م) انتقلت حياة الإنسان في فلسطين إلى الاستقرار، وتحول من جمع الغذاء إلى إنتاجه، وفي أريحا ظهرت أول الدلائل على حياة الاستقرار، وهي تعتبر – حتى الآن – أقدم مدن العالم حيث أنشئت نحو 8000 ق.م.
وامتد العصر الحجري النحاسي من (4500 – 3300ق.م)، وقد كشف عن مواقع حضارية أثرية تعود إلى تلك الفترة في منطقة بئر السبع، وبين جبال الخليل والبحر الميت، والخضيرة على السهل الساحلي .
وتميزت بداية الألف الثالث قبل الميلاد بظهور الإمبراطوريات القديمة في الشرق، وقد رافق ذلك التوصل إلى الكتابة والبدء بتدوين التاريخ، ومن هنا تبدأ العصور التاريخية في فلسطين .
ويطلق على الفترة الممتدة من (3300 – 2000 ق.م) اسم العصر البرونزي القديم، وقد تميزت هذه الفترة بظهور المدن التحصينية الدفاعية التي قامت على هضاب مرتفعة، وانتشرت بأعداد كبيرة، وكانت غالبيتها في وسط وشمال فلسطين، ومن أهم المواقع بيسان ومجدو والعفولة ورأس الناقورة وتل الفارعة غرب نابلس. وفي الألف الثالث قبل الميلاد زاد عدد سكان فلسطين ونمت المدن وأصبح لها قوة سياسية واقتصادية مما يمكن تسميته عصر "دويلات المدن" .
وخلال الألف الثالث قبل الميلاد هاجر إلى فلسطين العموريون (الأموريون) والكنعانيون، وكذلك اليبوسيون والفينقيون (وهما يعتبران من البطون الكنعانية)، وعلى ما يظهر فقد كانت هجرتهم إلى فلسطين حوالي 2500 ق.م، حيث استقر الكنعانيون في سهول فلسطين، وتركز العموريون في الجبال، واستقر اليبوسيون في القدس وما حولها وهم الذين أنشأوا مدينة القدس وأسموها "يبوس" ثم "أورسالم"، أما الفينيقيون فاستقروا في الساحل الشمالي لفلسطين وفي لبنان .
ويرى ثقات المؤرخين أن العموريين والكنعانيين واليبوسيين والفينيقيين قد خرجوا من جزيرة العرب وأن سواد أهل فلسطين الحاليين وخاصة القرويين هم من نسل تلك القبائل والشعوب القديمة أو من العرب والمسلمين الذين استقروا في البلاد إثر الفتح الإسلامي لها .
لقد كانت هجرة الكنعانيين واسعة في تلك الفترة بحيث أصبحوا السكان الأساسيين للبلاد، واسم أرض كنعان هو أقدم اسم عرفت به أرض فلسطين، وقد أنشأ الكنعانيون معظم مدن فلسطين، وكان عددها – حسب حدود فلسطين الحالية – لا يقل عن مائتي مدينة خلال الألف الثاني قبل الميلاد وقبل قدوم العبرانيين اليهود بمئات السنين. ومن المدن القديمة فضلاً عن أريحا والقدس مدن شكيم (بلاطة، نابلس) وبيسان وعسقلان وعكا وحيفا والخليل وأسدود وعاقر وبئر السبع وبيت لحم .
ثم جاء العصر البرونزي الوسيط (2000 – 1550 ق.م) حيث شهد النصف الأول من الألف الثاني قبل الميلاد حكم الهكسوس الذين سيطروا على فلسطين خلال القرون (18 –16ق.م) وعلى ما يظهر ففي هذا العصر (حوالي 1900ق.م) قدم إبراهيم عليه السلام ومعه ابن أخيه لوط عليه السلام إلى فلسطين وهناك ولد إسماعيل وإسحاق ويعقوب عليهم السلام .
وبدأ العصر البرونزي المتأخر (1550 – 1200) بانزواء حكم الهكسوس ودخول فلسطين تحت سيطرة الحكم المصري المطلق، أما العصر الحديدي (1200 – 320ق.م) فيظهر أنه في بدايته (1200 ق.م تقريباً) استقبلت فلسطين مجموعات مهاجرة من مناطق مختلفة أبرزها هجرات "شعوب البحر" التي يظهر أنها جاءت من غرب آسيا ومن جزر بحر إيجه (كريت وغيرها) وقد هاجمت هذه الشعوب في البداية سواحل الشام ومصر ولكن رعمسيس الثالث فرعون مصر صدها عن بلاده في معركة بلوزيون "قرب بور سعيد" وأذن لها أن تستقر في الجزء الجنوبي من فلسطين، وورد في النقوش الأثرية اسمها "ب ل س ت "، ومنها جاءت تسميتهم "فلسطيون" ثم زيدت النون إلى اسمهم (ربما على اعتبار الجمع) فأصبحوا فلسطينيين وقد أقام الفلسطيون خمس ممالك هي مدن غزة وأشدود وجت وعقرون وعسقلان وهي مدن المرجح أنها كنعانية قديمة غير أنهم وسعوا ونظموها ثم أنشاوا مدينتين جديدتين هما اللد وصقلغ، واستولوا على بقية الساحل حتى جبل الكرمل كما استولوا على مرج ابن عامر، وسرعان ما اندمج الفلسطيون بالكنعانيين واستعملوا لغتهم وعبدوا آلهتهم (داجون وبعل وعشتار)، ورغم أن الفلسطيين ذابوا في السكان إلا أنهم أعطوا هذه الأرض اسمهم فأصبحت تعرف بفلسطين .
ويظهر من الدلائل التاريخية المقارنة أن موسى عليه السلام قاد بني إسرائيل باتجاه الأرض المقدسة في النصف الأخير من القرن 13 ق.م أي أواخر العصر البرونزي المتأخر، الذي شهد هو وبداية العصر الحديدي بداية الدخول اليهودي إلى فلسطين، ثم قيام مملكة داود وسليمان عليهما السلام 1004 – 923 ق.م التي انقسمت إلى مملكة إسرائيل 923 – 722 ق.م ومملكة يهودا 923 – 586 ق.م والتي حكمت كل منها جزءاً محدوداً من أرض فلسطين. ومنذ 730 ق.م دخلت فلسطين بشكل عام تحت النفوذ الآشوري القادم من العراق حتى 645 ق.م ثم ورثهم البابليون في النفوذ حتى 539 ق.م، وكان الآشوريون والبايليون يتداولون النفوذ على فلسطين مع مصر. ثم إن الفرس غزوا فلسطين وحكموها 539 – 332 ق.م. ثم دخلت فلسطين في العصر الهلينستي اليوناني حيث حكمها البطالة حتى 198 ق.م ورثهم السلوقيون حتى 64ق.م عندما جاء الرومان وسيطروا على فلسطين، وبعد انقسام الإمبراطورية الرومانية ظلت فلسطين تتبع الإمبراطورية الرومانية الشرقية "دولة الروم" وعاصمتها القسطنطينية حتى جاء الفتح الإسلامي وأعطاها صبغتها العربية الإسلامية سنة 636م .
دولة الحق ومسيرة الأنبياء على الأرض المقدسة
كان إبراهيم عليه السلام أول الأنبياء الذين نعلم أنهم عاشوا في فلسطين وماتوا فيها، وإبراهيم عليه السلام هو أبو الأنبياء فمن نسله جاء الكثير من الأنبياء كإسحاق ويعقوب ويوسف وإسماعيل ومحمد عليهم أفضل الصلاة والسلام .
ولد إبراهيم عليه السلام – حسبما ورد من آثار – في "أور" في العراق وعاش هناك ردحاً من الزمن حيث قام بتحطيم الأصنام ودعا إلى التوحيد وواجه النمرود وألقمه الحجة، وألقي في النار عقاباً له على تحطيم الأصنام فجعلها الله عليه برداً وسلاماً، وهاجر إبراهيم ومعه ابن أخيه لوط في سبيل الله، {وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين} .
ويظهر أن إبراهيم في البداية هاجر ومن معه إلى حران (الرها) وهي تقع الآن في جنوب تركيا إلى الشمال من سوريا، ومن هناك هاجر إلى أرض كنعان "فلسطين"، قال تعالى {ونجيناه ولوطاً إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين}، وحسب تقدير المؤرخين فإن قدومه إلى فلسطين كان حوالي 1900ق.م وكان هذا التاريخ بالنسبة لتاريخ العراق القديم يمثل نهاية عهد "أور الثالثة" التي حكمها السومريون وبداية العصر البابلي القديم الذي سيطرت فيه العناصر السامية القادمة من جزيرة العرب "العموريون" .
نزل إبراهيم عليه السلام في شكيم قرب نابلس ومنها انتقل إلى جهات رام الله والقدس ومر بالخليل ثم ببئر السبع حيث استقر حولها زمناً ثم ارتحل إلى مصر، وكان ذلك يوافق تقريباً عهد الأسرة الحادي عشر أو الثاني عشر لفراعنة مصر، وعاد من مصر ومعه "هاجر" التي أهداها الزعيم المصري، وذكر في رواية أنها ابنة فرعون أو إحدى الأميرات، ثم عاد إلى فلسطين فمر بجوار غزة حيث التقى أبا مالك أمير غزة، ثم تجول بين بئر السبع والخليل، ثم صعد إلى القدس، ثم إن لوطاً عليه السلام انتقل إلى جنوب البحر الميت حيث أرسل لأهل تلك المنطقة، بينما مكث إبراهيم عليه السلام في جبال القدس والخليل، وقد ولد إسماعيل عليه السلام لإبراهيم من زوجته هاجر، ثم رزق بإسحاق بعد ذلك بثلاثة عشر عاماً من زوجته سارة، ويبدو أن إبراهيم رزق بأبنائه وهو في سن كبيرة نستشف ذلك من قوله تعالى على لسان سارة {يا ويلتا أآلد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخاً}.
ويبدو أن إبراهيم عليه السلام تردد على الحجاز أكثر من مرة، فقد أحضر إسماعيل وأمه هاجر إلى مكة وقصة سعي هاجر بين الصفا والمروة وتفجر ماء زمزم مشهورة، ثم إن إبراهيم عاد فبنى مع إسماعيل الكعبة {وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم}. غير أن مركز استقرار إبراهيم ظل فلسطين، وفيها توفي حيث دفن في مغارة المكفيلة قرب "الخليل" وهي المدينة التي سميت باسمه عليه السلام. وقيل إنه عمّر 175 سنة .
عاصر إبراهيم عليه السلام حاكم القدس "ملكي صادق" وكان على ما يبدو موحداً وكان صديقاً له، وفي تلك الفترة كان المؤمنون بالله قلة نادرة، فقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن إبراهيم قال لزوجته سارة عندما أتى على جبار من الجبابرة "ليس على الأرض مؤمن غيري وغيرك"، ويظهر أن ذلك حدث عندما ذهبا لمصر، ولعلنا نستشف هذا المعنى من قوله تعالى {إن إبراهيم كان أمة قانتاً لله}.
وعلى كل حال فإن أبا الأنبياء إبراهيم الخليل كان رسولاً من أولي العزم من الرسل، وكان له دوره الدعوي في نشر رسالة التوحيد في فلسطين حيث كان يؤسس المساجد ويقيم المحاريب لعبادة الله في كل مكان ذهب إليه. ويظهر أنه لم يجد عناء أو عنتاً من أهل فلسطين ولم يضطر لتركها بسبب دينه ودعوته فظل مستقراً يتنقل بحرية فيها حتى توفاه الله .
أما لوط عليه السلام فقد استقر جنوب البحر الميت حيث أرسل إلى قرية "سدوم" وهؤلاء كانوا يفعلون الفاحشة بالرجال "اللواط" وقد نهاهم لوط عن هذا فأعرضوا واستكبروا فانتقم الله منهم فجعل عاليها سافلها وأمطر عليهم حجارة من سجيل {ولوطاً إذ قال لقومه أتاتون الفاحشة ما سبقكم بها من العالمين، إنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم مسرفون، وما كان جواب قومه إلا أن قالوه أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون، فأنجيناه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين، وأمطرنا عليهم مطراً فانظر كيف كان عاقبة المجرمين}، {فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل منضود، مسومة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد} .
ويشير القرآن الكريم إلى أن إبراهيم عليه السلام قد عاصر رسالة لوط وهلاك قومه. فقد جاءه الملائكة وبشروه بإسحاق واخبروه بأنهم مرسلون لتدمير قوم لوط فقال لهم {إن فيها لوطاً قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينّه وأهله إلا امرأته . . }، وهكذا نصر الله سبحانه رسوله لوطاً وطهر أرضه المباركة من {القرية التي كانت تعمل الخبائث}، وجاءت البشرى لإبراهيم بإسحاق ليحمل راية التوحيد من بعده على الأرض المباركة وليتواصل انتشار النور الإلهي فيها .
وعاش إسحاق في أرض فلسطين ورزقه الله سبحانه يعقوب عليه السلام "إسرائيل" والذي يعتبره اليهود أباهم، وكان إسحاق ويعقوب منارات للهدى بعد إبراهيم عليه السلام، وانظر إلى البيان القرآني في إيجازه وروعته {ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة وكلاً جعلنا صالحين، وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين} .
ولد يعقوب عليه السلام في القرن 18 ق.م (حوالي 1750ق.م) في فلسطين، غير أنه هاجر على ما يظهر إلى حران "الرها" وهناك تزوج له أحد عشر ابناً منهم يوسف عليه السلام بينما ولد ابنه الثاني عشر بنيامين في أرض كنعان "فلسطين" وقد رجع يعقوب عليه السلام وأبناؤه إلى فلسطين وسكن عند "سعيّر" قرب الخليل، وقصته وقصة ابنه بوسف مشهورة ومفصلة في سورة يوسف من القرآن الكريم. وهي التي تحكي تآمر إخوة يوسف على يوسف وإلقاءه في البئر واكتشاف قافلة له وبيعهم إياه في مصر، حيث شبّ هناك ودعا إلى الله وصمد أمام فتنة النساء وصبر في السجن حتى أكرمه الله بأن يوضع على خزائن مصر بعد تأويله الرؤيا وثبوت براءته. ثم إن يوسف استقدم أباه يعقوب وإخوته إلى مصر حيث رد الله البصر إلى يعقوب بعد أن ابيضت عيناه على فراق يوسف، كما عفا يوسف عن إخوته، وتذكر بعض الروايات أن يعقوب عاش في مصر 17 سنة غير أن دفن عليه السلام إلى جوار جده وأبيه إبراهيم وإسحاق في الخليل .
ويبدو أن تلك الفترة التي عاش فيها يعقوب وأبناؤه في مصر كانت توافق حكم الهكسوس لمصر وهم أصلاً من غير المصريين، ويمثل حكمهم الأسرتين 15 و 16 من الأسر التي حكمت مصر، واللتين امتد حكمهما لمصر من 1774 – 1567 ق.م .
وعلى كل حال، يظهر أن يوسف وإخوته أبناء يعقوب "إسرائيل" نعموا بحرية العمل والعبادة في مصر وكان لهم دورهم في الدعوة إلى التوحيد، غير أن الأمر لم يستمر على حاله في أجيالهم المتعاقبة، فوقع بنو إسرائيل تحت الاضطهاد الفرعوني حتى أرسل الله موسى عليه السلام إلى فرعون لإخراج بني إسرائيل منها إلى الأرض المقدسة .
بنو إسرائيل بعد موسى عليه السلام
لقد كان بنو إسرائيل في تلك الفترة هم أهل الحق وحملة راية التوحيد، وكان فرعن مصر في ذلك الزمان متكبراً متعجرفاً يدعي الألوهية، وكان مفسداً يضطهد بني إسرائيل فيذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم {إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبنائهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين}، وقد ولد موسى عليه السلام في هذا الجو وتربى في بيت فرعون في تدبير رباني محكم، وقصة موسى ونشأته ودعوته لفرعون وخروجه ببني إسرائيل وهلاك فرعون أشهر من أن تروى .
قدر الله سبحانه أن يعطي تلك الفئة المؤمنة في ذلك الزمان أرض فلسطين {ونريد أن نمنّ على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين، ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون} .
وأرسل موسى عليه السلام إلى فرعون بهذا الأمر، يعاونه في ذلك أخوه هارون الذي بعث رسولاً أيضاً {وقال موسى يا فرعون إني رسول من رب العالمين، حقيق على ألا أقول على الله إلا الحق قد جئتكم ببينة من ربكم فأرسل معي بني إسرائيل}، غير أن فرعون يأبى ويتكبر ولا يؤمن بالآيات والمعجزات التي جاء بها موسى، ويؤمن السحرة الذين حشدهم فرعون بدعوة موسى، ويسقط في يد فرعون، ويبدو أن الذين أظهروا إيمانهم وانضموا إلى بني إسرائيل كانوا عدداً محدوداً من أولاد وفتيان بين إسرائيل وكان إيمانهم مقروناً بخوف من أن يفتنهم فرعون {فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم وإن فرعون لعال في الأرض وإنه لمن المسرفين}. ثم إن موسى عليه السلام قاد من آمن من قومه شرقاً فأتبعهم فرعون وجنوده، وحدثت قصة انشقاق البحر وإنقاذ الله سبحانه لبني إسرائيل وهلاك فرعون وجنوده {فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم، وأزلفنا ثم الآخرين، وأنجينا موسى ومن معه أجمعين ثم أغرقنا الآخرين} .
ونقف هنا عند بعض الآراء والروايات التاريخية التي يظهر منها أن عدد من خرج مع موسى من مصر كان حوالي ست آلاف فقط أو خمسة عشر آلفاً على بعض الروايات. أما تلك الفترة من الناحية التاريخية فكانت على ما يبدو خلال القرن الثالث عشر قبل الميلاد. وكان خروج بني إسرائيل من مصر تحديداً في حوالي الثلث الأخير من ذلك القرن. وهي فترة توافق حكم "رعمسيس الثاني" المشهور في هذا العصر بـ"رمسيس الثاني"، ومن تقدير الله أن جثة هذا الفرعون معروضة في أحد المتاحف المصرية الآن، وهذا يذكرنا بقوله سبحانه {فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية، وإن كثيراً من الناس عن آياتنا لغافلون} .
وبعد إنقاذ الله سبحانه لبني إسرائيل تبرز فصول معاناة موسى وهارون معهم، ويظهر من صفات هؤلاء ضعف الإيمان والجهل والجبن، فمن كادوا يخرجون من البحر حتى أتوا على قوم يعبدون أصناماً، {قولوا يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة !!!}، ثم عندما يذهب موسى لميقات ربه يعبد قومه العجل رغم وجود هارون بينهم !! {واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلاً جسداً له خوار}، {فقالوا هذا إلهكم وإله موسى فنسي}، وكادوا يقتلون هارون عندما نهاهم عن كفرهم وهو الذي قال لأخيه موسى {إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني} وغيرها من المواقف .
ثم يقود موسى بني إسرائيل باتجاه الأرض المقدسة ويقول لهم {يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين}، ولكنهم يختارون الارتداد على أدبارهم، {قالوا يا موسى إن فيها قوماً جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون}، ولا ينفع فيهم النصح فيكررون، {قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبداً ما داموا فيها فأذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون}، ويعلق سيد قطب رحمه الله على موقف بني إسرائيل هذا فيقول :"إن جبلة يهود لتبدو هناك على حقيقتها، مكشوفة بلا حجاب ولو رقيق من التجمل، إن الخطر ماثل قريب، ومن ثم لا يعصمهم منه حتى وعد الله لهم بأنهم أصحاب الأرض، وأن الله قد كتبها لهم، فهم يريدونه نصراً رخيصاً، لا ثمن فيه، ولا جهد فيه، نصراً مريحاً يتنزل عليهم تنزل المن والسلوى" . . "وهكذا يحرج الجبناء فيتوقحون، ويفزعون من الخطر أمامهم، هكذا في وقاحة العاجز لا تكلفه وقاحة اللسان إلا مد اللسان"، {فأذهب أنت ربك!} فليس بربهم إذا كانت ربوبيته ستكلفهم القتال، {إنا ها هنا قاعدون}، لا نريد ملكاً، ولا نريد عزاً، ولا نريد أرض الميعاد، ودونها لقاء الجبارين، هذه هي نهاية المطاف بموسى عليه السلام، نهاية الجهد الجهيد، والسفر الطويل، واحتمال الرذالات والانحرافات والالتواءات من بين إسرائيل ! .
ويتألم موسى عليه السلام ويلجأ إلى ربه {رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي، فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين}، ويستجيب الله لنبيه {قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض}، وهكذا يحكم عليهم بالتيه بعد أن كانوا على أبواب الأرض المقدسة، ويظهر أن الله سبحانه قد حرمها على هذا الجيل من بني إسرائيل حتى ينشأ جيل غيره يصلب عوده في جو من خشونة الصحراء، فهذا الجيل "أفسده الذل والاستعباد والطغيان في مصر فلم يعد يصلح لهذا الأمر الجليل" .
وتوفي موسى عليه السلام قبل أن يستطيع دخول الأرض المقدسة، وفي الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إن موسى عندما حان أجله قال رب أدنني من الأرض المقدسة رمية حجر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "والله لو أني عنده لأريتكم مكان قبره إلى جنب الطريق عند الكثيب الأحمر" .
دخول بني إسرائيل أرض فلسطين
وبعد أن نشأ جيل صلب جديد وبعد سنوات التيه قاد بني إسرائيل نبي لهم هو يوشع بن نون عليه السلام ويسميه اليهود "يشوع" وهو الذي عبر بهم نهر الأردن وانتصر على أعدائه واحتل مدينة أريحا، وكان عبوره نهر الأردن حوالي 1190 ق.م ثم غزا "عاي" بجوار رام الله، وحاول فتح القدس ولكنه لم يستطيع، وكان عدد اليهود قليلاً بحيث يصعب عليهم الانتشار واحتلال كافة المناطق والسيطرة عليها. ومما نعلمه عن يوشع من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يوشع التقى أعداءه في معركة طالت حتى كادت الشمس تغيب فدعا الله ألا تغيب الشمس حتى تنتهي المعركة وينتصر فاستجاب الله لدعوته فأخر غروب الشمس حتى انتصر يوشع .
وبعد يوشع عليه السلام تولى قيادة اليهود زعماء عرفوا "بالقضاة" وعرف عصرهم ب"عصر القضاة" وعلى الرغم من محاولاتهم إصلاح قومهم فقد ساد عصرهم الذي دام حوالي 150 سنة، الفوضى والنكبات والخلافات والانحلال الخلقي والديني بين بني إسرائيل، وقد استوطنوا في تلك الفترة في الأراضي المرتفعة المحيطة بالقدس وفي السهول الشمالية في فلسطين .
ولما شعر بنو إسرائيل بحالهم المتردي طلب الملأ منهم من نبي لهم (يقال ان اسمه صموئيل) أن يبعث عليهم ملكاً يقاتلون تحت رايته في سبيل الله، ولكن نبيهم الذي يعرف طباعهم قال لهم {هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا، قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلاً منهم {وأخبرهم نبيهم أن الله قد بعث عليهم طالوت ملكاً فاعترضوا بأنه أحق بالملك منه وأنه {لم يؤت سعة من المال}، فقال لهم نبيهم إن الله اصطفاه عليهم وزاده بسطة في العلم والجسم .
وتولى القائد المؤمن طالوت الملك على بني إسرائيل، وكان ذلك حوالي سنة 1025ق.م، وتسميه الروايات الإسرائيلية "شاؤول" وتساقط أتباعه في الاختبار عندما ابتلاهم الله بنهر الأردن ومنعهم من الشرب منه {إلا من اغترف غرفة بيده فشربوا منه إلا قليلاً منهم}، ثم تساقط الكثير من القليل الذي بقي في الاختبار التالي عندما رأوا جالوت وجنوده فقالوا {لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده}، ولم تثبت في النهاية إلا ثلة قليلة مؤمنة أعطاها الله سبحانه النصر وقتل داود عليه السلام – وكان فتى – في هذه المعركة جالوت بالمقلاع .
ولا نعرف بعد ذلك ما حصل يقيناً لطالوت، غير أن الروايات الإسرائيلية تذكر أنه في سنة 1004 ق.م تقريباً استطاع الفلسطيون الانتصار على طالوت "شاؤول" في معركة جلبوع وأنهم قتلوا ثلاثة من أبنائه وأكرهوا على الانتحار وقطعوا رأسه وسمّروا جسده وأجساد أولاده على سور مدينة بيت شان "بيسان" .
وينفتح فصل جديد في تاريخ بين إسرائيل وفي انتشار وسيطرة دعوة التوحيد على الأرض المباركة وذلك بتولي داود عليه السلام الملك بعد طالوت سنة 1004 ق.م، ويعتبر داود عليه السلام المؤسس الحقيقي لمملكة بني إسرائيل في فلسطين، فقد قضى اليهود الفترة التي سبقت داود دون أن يملكوا سوى سلطان ضئيل في أجزاء محدودة من فلسطين ودون أن يستطيعوا أن يكونوا سادتها، ومضى جميع عصر القضاة في القتال الجزئي بجماعات صغيرة وذلك بأن تدافع كل جماعة (قبيلة) بمشقة عن قطعة الأرض التي استولت عليها .
ولد داود عليه السلام في بيت لحم، واستمر حكمه أربعين عاماً تقريباً (1004-963 ق.م) وكانت عاصمة حكمه في البداية مدينة "الخليل" حيث مكث فيها سبع سنوات، ثم إنه فتح القدس حوالي سنة 995 ق.م فنقل عاصمته إليها. وواصل حربه ضد الأقوام الكافرة في الأرض المقدسة حتى تمكن من إخضاعهم سنة 990 ق.م تقريباً، وأجبر دمشق على دفع الخراج وأخضع المؤابيين والأيدوميين والعمونيين، وهكذا سيطر أتباع التوحيد – في ذلك الزمان – لأول مرة – فيما نعلم – على معظم أنحاء فلسطين، غير أنه حدود مملكة داود عليه السلام في أغلب الظن لم تلامس البحر إلا من مكان قريب من يويا (يافا)، ويبدو أن حدود المملكة الإسرائيلية في أوجها كانت مئة وعشرين ميلاً في أطول أطوالا وستين ميلاً في أعرض عرضها وأقل من ذلك بكثير في أغلب الأحيان، أي أن مساحتها لم تزد عن 7200 ميل مربع أي حوالي 20 ألف كم2، وهذا أقل من مساحة فلسطين الحالية بحوالي سبعة آلاف كم2. لقد سيطر اليهود على المناطق المرتفعة لكنهم أخفقوا في السيطرة على السهول وخصوصاً أجزاء كبيرة من الساحل الفلسطيني، وهي أجزاء لم تتم لدولتهم السيطرة عليها إطلاقاً طوال قيامها .
وإذا كان يهود هذا الزمان يفاخرون بداود عليه السلام ويعتبرون أنفسهم حاملي لوائه وميراثه، فإن المسلمين يعتبرون أنفسهم أحق بداود من بني إسرائيل، وهم يؤمنون به نبياً من أنبياء الله ويحبونه ويكرمونه، ويفاخرون به لأنه أنشأ دولة الإيمان القائمة على التوحيد في فلسطين وهم السائرون على دربه الحاملون لرايته في هذا الزمان بعد أن نكص عنها بنو إسرائيل وكفروا وأشركوا ونقضوا عهودهم مع الله .
ونعلم من القرآن الكريم أن الله سبحانه قد رزق داود عليه السلام العلم والحكمة، وأنزل عليه الزبور، وأنه أوتي ملكاً قوياً، وأن الجبال والطيور كانت تسبح معه وتذكر الله عندما كان يتلو مزاميره بصوته الخاشع المؤثر، {واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب، إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق، والطير محشورة كل له أواب، وشددنا ملكه وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب}، وقوله تعالى {يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله . .}.
وألان الله سبحانه وتعالى لداود الحديد فكان بين يديه كالشمع أو كالعجين يشكله كيف شاء دون حاجة لصهره في النار وهذه معجزة أعطاها الله لداود، وكان داود رغم ما أوتي من ملك يعمل بالحدادة ولا يأكل إلا من عمل يده، وقد طور داود صناعة الدروع في زمانه فبعد أن كان الدرع صفيحة واحدة تثقل حاملها وتعيق حركته هداه الله إلى أن تكن حلقاً متداخلة تسهل الحركة لا تنفذ منها السهام. . . {وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم، فهل أنتم شاكرون}، وقوله تعالى {ولقد أتينا داود منا فضلاً يا جبال أوبي معه والطير وألنّا له الحديد، أن اعمل سابغات وقدر في السرد واعملوا صالحاً إني بما تعملون بصير}.
وورث سليمان عليه السلام أباه داود في العلم والحكم والنبوة، وتشير الروايات إلى أن سليمان كان واحداً من 19 أبناً لداود، وأن سليمان ولد في القدس، وأن حكمه في الأرض المباركة استمر حوالي أربعين عاماً (963-923ق.م) .
وقد وهب الله سبحانه سليمان ملكاً لا يحصل لأحد بعده فقد سخر الله له الجن لخدمته كما سخر له الريح تجري بأمره، واشتهر سليمان بحكمته وعدله وقوة سلطانه، كما علمه الله لغة الطير والحيوانات .
لقد كان ملك سليمان بحد ذاته معجزة ربانية أعطاها الله له دلالة على نبوته، وقد نعمت فلسطين بهذا الحكم الإيماني المعجزة الذي تدعمه قوى الجن والإنس والطير والريح، وكرم الله سليمان بمعجزة إسالة النحاس له حتى كان يجري كأنه عين ماء متدفقة من الأرض، وشهدت مملكة سليمان حركة بناء وعمران ضخمة، كما امتد نفوذه ليصل مملكة سبأ في اليمن .
ولقد جاء ذكر سليمان مرات عديدة في القرآن الكريم مشيراً إلى عمله وملكه ونبوته، قال تعالى محدثاً عن سليمان {قال رب اغفر لي وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب، فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب، والشياطين كل بناء وغواص، وآخرين مقرنين في الأصفاد، هذا عطاؤنا فامنن أو امسك بغير حساب، وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب} .
قال تعالى {وورث سليمان داود وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء إن هذا لهو الفضل المبين، وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون}، وقال تعالى {ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر وأسلنا له عين القطر ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير، يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات اعملوا آل داود شكراً وقليل من عبادي الشكور}، وقال تعالى {ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها وكنا بكل شيء عالمين، ومن الشياطين من يغوصون له ويعملون عملاً دون ذلك وكنا لهم حافظين}.
أما في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فنستشف منه أن سليمان كان ذا قوة بدينة هائلة وأنه كان محباً للجهاد في سبيل الله، وأنه كان له زوجات كثيرات، فعن أبي هريرة رضي الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "قال سليما، لأطوفن الليلة على تسعين، وفي رواية: بمائة امرأة، كلهن تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله، فقال له الملك: قل إن شاء الله، فلم يقل ونسي فطاف عليهن، فلم تحمل منهن إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل، وأيم الذي نفس محمد بيده لو قال: إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرساناً أجمعون" .
وكانت وفاة سليمان عليه السلام آية من آيات الله ودرساً من الدروس للإنس والجن بأن الجن لا يعلمون الغيب، إذ أن سليمان عليه السلام وقف يصلي في المحراب وهو متكؤ على عصاه فمات وهو كذلك ومكث فترة طويلة والجن تعمل تلك الأعمال الشاقة دون أن تدري بموته حتى أكلت الأرضة عصاه فسقط على الأرض، قال تعالى {فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا داب الأرض تأكل منسأته فلماخر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين} .
يتبع